قيل
رسم
.
46 ص + تقرير مصور.
هل علينا النظر إلى من لديه قناعة تامة بوجود مدينة منسية، أو حضارة مفقودة، في مكان ما، مختفية في أعماق مناطق معادية، على أنه معتوه؟! مثل ذلك الذي يبحث عن أطلنطس أسطورية يرجِّح الجميع كونها خرافية أكثر من كونها حقيقية؟ هذا – على كل حال – هو ما يحدث أغلب الوقت. إن الذين هم مقتنعون بأن معلوماتنا عن الشعوب القديمة أبعد من أن تكون كاملة يتم النظر إليهم بتعالٍ، بل وبازدراء. لقد تلاشى من الذاكرة سريعاً حيرام بنجهام الذي اكتشف مدينة الأنكا القديمة "ماتشو بيكتشو" (في بيرو) عام 1911؛ وجان لوي بوركهارت الذي أعاد اكتشاف البتراء (في الأردن) عام 1842؛ أو أيضاً هنري موشة الذي كشف للغربيين – عام 1861 – الجمال الرائع لموقع أنجكور (في كمبوديا).
إنها قائمة بعيدة عن أن تكون شاملة. لقد سعوا وراء البحث عن أماكن لم توجد إلا في مخيلتهم، معتمدين على الإيمان بقصة ما، أو على نَص قديم تم تسليط الضوء عليه، أو على افتراضات، أو على بعض الإضاءات من البراهين غير الملموسة... لكن – بالطبع - كم حالة من الفشل حدثت مقابل حفنة من النجاحات المبهرة؟ كم من الرحلات الاستكشافية عديمة الفائدة قامت، وكم من الضحايا سقطوا في سعيهم للعثور على "إلدورادو" أثري أو ممالك أخرى ذات ثراء لا يُصَدَّق؟! كم من الآمال راحت أدراج الرياح؟!
لكن، بدون الإصرار واليقين والشجاعة التي تحلَّى بها أولئك المستكشفون، لم يكن اليونسكو سيسجل اليوم سوى عدد قليل للغاية من الآثار لحساب إرث الإنسانية العالمي! وهكذا، فعندما أعلن برسي هاريسون فاوست، عام 1920، عن وجود مدينة مفقودة في قلب الغابة الأمازونية الشاسعة، بل ووجود حضارة ما تزال حية، لِما لا يتم تصديقه؟ إنه خبير - أكثر من أي إنسان آخر - بالجحيم الأخضر، حيث كان قد شد الرحال إليه في نصف دزينة من الرحلات الاستكشافية السابقة؛ وهو يتحدث بعضاً من لغات قبائل السكان الأصليين التي تمكن من التواصل معها؛ كما قام بإجراء أبحاث دؤوبة في كل مكان أتيح له فيه أن يفعل ذلك.
ولم يخِب ظن جمعية لندن الجغرافية الملكية، التي تتميز بالجدية الشديدة، في ذلك الذي كان في تلك الحقبة أحد أعظم المستكشفين البريطانيين، والذي قامت الجمعية بدعمه على طول الخط. ومنذ تلك اللحظة، لن يكون لفاوست غاية سوى البحث عن تلك المدينة المفقودة التي دعاها هو بنفسه المدينة "زِد". كأنه السعي وراء الكأس المقدسة، الذي طالما قاد حياته: سعيٌ بلا تنازل، مستعدٌ للتضحية بكل شيء، حتى النفس الأخير...
كريستيان كلو
عضو جمعية المستكشفين الفرنسيين
مدن الأمازون المفقودة
لماذا أصبح "برسي فاوست" واحداً من أشهر المستكشفين بحوض الأمازون؛ ملهماً عشرات الكُتّاب الذين كتبوا عن العدد الكبير من البعثات التي قادها في سبيل أبحاثه؟ إنه – على الرغم من ذلك – لم يبلغ هدفه أبداً، حسب علمنا. أيكون ذلك – فقط – لأنه قد اختفى دون أن يخلِّف أثراً؟ ربما! لكنه – على الأخص – يشكل جزءًا من تلك الكائنات المملوءة شغفاً، المستعدة لبذل كل ما لديها، والتخلي عن كل شيء، لملاحقة حلمها، متعدية حدود المعقول! إن فاوست يبهرنا بإصراره العنيد، وببحثه الدائم عن أسطورة ما؛ عن "أطلنطس" التي ترقد في أعماق كل واحد منا. إن سعياً مثل ذلك يبعث في داخلنا الإعجاب – بوعي أو بغير وعي – بكل الذين رحلوا يوماً ما، مسوقين من شغفهم الكبير.
سياق تاريخي لرحلات برسي فاوست الاستكشافية
قاد برسي فاوست رحلته الاستكشافية الأولى عام 1906؛ واختفى أثناء رحلته الاستكشافية الأخيرة، في "ماتو جروسو"، عام 1925. وتلك الفترة - الممتدة طوال الربع الأول من القرن العشرين – كانت ستحفل – بصورة خاصة - بالأحداث المتلاحقة، والمخترعات المبهرة التي فجرت ثورة في العالم الحديث. من ناحية، سوف تكون الحرب العالمية الأولى هي الصراع الأكثر تدميراً الذي يشهده الكوكب حتى ذلك الزمن؛ وسوف تؤدي آثاره الاقتصادية أو الجغرافية-السياسية إلى تغيير وجه العالم: لقد راح ضحية جائحة الأنفلونزا المسماة "الإسبانية" – عام 1918 – ما بين 30 و100 مليون حالة وفاة (حسب تقديرات مختلفة)، وكان ذلك الوباء هو الأكثر إهلاكاً في جميع العصور، في مثل تلك المدة القصيرة. وكانت أحداث أخرى على وشك أن تترك آثارها الدائمة على تاريخ هذا القرن، مثل الثورة الروسية عام 1917، أو رغبة العديد من المستعمرات في الحصول على استقلالها. وبالتوازي مع ما سبق، انتشرت الكهرباء وعُمِّمت في كل مكان تقريباً؛ وفرضت السيارة نفسها كوسيلة تنقُّل لا غنى عنها؛ وصارت الاتصالات عبر المسافات الطويلة سريعة وفورية بفضل تطوير أجهزة الهاتف. لكن، كان اختراع الطائرة – مع أول رحلة جوية للأخوين رايت عام 1903 – هو الذي سيؤشر لبداية القرن العشرين. ومع أن القليل جداً من الناس كان يؤمن بوسيلة الانتقال تلك، وأن الكثيرين تساءلوا، بعد الحرب، عن الجدوى من تلك الماكينات الطائرة التي صارت عديمة فائدة؛ فلم يتطور أبداً أي اختراع بالسرعة التي تطورت بها الطائرات. في أقل من 40 عاماً، تحولت الطائرة من آلة بلا قيمة أو نفع، إلى الطائرة الأسرع من الصوت، وأفسحت لنفسها مكاناً في كل مجالات المجتمع: من نقل البريد، إلى نقل البضائع، إلى نقل المسافرين، إلى رصد ورعاية الكوكب في جميع المجالات، كعمليات الإنقاذ، والترفيه، وحتى الرحلات الاستكشافية. في ذلك السياق، كانت الاستكشافات والمستكشفون مثاراً للسخرية. ومع وصول رولد آموندسن إلى القطب الجنوبي عام 1911، أعلنت جمعيات علمية عديدة أن استكشاف العالم قد بلغ منتهاه. ومع ذلك، فقد استمر المغامرون والمستكشفون في استكشاف العالم، حتى بدون دعم المؤسسات العلمية الكبيرة. وفي ذلك السياق، كانت مجلة "الجمعية الجغرافية الملكية" تمثل استثناءً، حيث راحت تتابع - بشكل متواصل - الرغبة في اكتشاف العالم.
وقد انطلقت أول رحلة استكشافية حديثة، عام 1888، من الولايات المتحدة. وفي عام 1910، كانت المملكة المتحدة تسيطر على 22 % من مساحة اليابسة في العالم، وعلى ما يقرب من 450 مليون نسمة، يشكلون ربع تعداد العالم، تقريباً، في ذلك الزمن. ومثل تلك المساحة الجغرافية الشاسعة ولَّدت لدى الإنجليز الاحتياج لمزيد من المعرفة عن الأراضي التي يحكمونها. وهكذا، بعثت الجمعية الجغرافية الملكية بأفضل جغرافييها ليقوموا برسم خرائط لتلك الأراضي. وبذلك، كانت بداية برسي فاوست كمبعوث من الجمعية لترسيم الحدود بين بوليفيا والبرازيل.
برسي هاريسون فاوست
هو ابن إدوارد وميرا فاوست. وُلِد في الثامن عشر من أغسطس عام 1867، في ديفون بإنجلترا. وكان والده على صلة بالجمعية الملكية للجغرافيا. وقد زرع الأب في ولديه برسي وأخيه إدوارد حب الاكتشاف. وقد صار إدوارد متسلقاً لجبال الألب ومؤلفاً للمغامرات. وبعد الدراسة الجامعية، انخرط برسي فاوست في الجيش، أملاً في أن يجد ما يشبع نهمه للمغامرات. وسافر فاوست – كما كان يأمل – في مهمته الأولى كضابط في جيش الهند إلى جزيرة سيلان، عام 1886. وهناك، قام بأول عمليات استكشاف له، حيث مسح الجزيرة بأكملها، شبراً شبراً. وفي تلك الفترة، ظهرت السمتان اللتان سوف تتميز بهما شخصيته طوال حياته: إنه شخص حالم ذو نزعة صوفية، وهو منظِّم جسور ومقدام، لا يرضيه شيء.
وقد برع فاوست في صناعة الأسلحة وبناء اليخوت؛ وكان رياضياً مبرزاً، وموهوباً في الرسم. وفي سيلان، التقى بنينا آجنس باترسون، التي كان والدها قاضياً بالجزيرة. وسرعان ما تحابا؛ وتزوجا بعد لقائهما الأول بثلاث سنوات، عام 1903، بعد مفاوضات عديدة مع أسرتيهما. وفي عام 1901، أخذ فاوست إجازة من الجيش ليلتحق بدروس لرفع المقاييس (الهندسة) ورسم الخرائط، بالجمعية الملكية للجغرافيا، حيث أدهش الجميع باستيعابه السريع، ومثابرته، ورغبته في السفر في مهمات استكشافية. وقد ذهب في بعض المهمات التابعة للخدمات السرية البريطانية في شمال أفريقيا؛ ونشأت صداقات بينه وبين بعض الكُتّاب، من بينهم السير هنري رايدر هجارد (مؤلف "آلان كواترمين" عام 1887)، وآرثر كونان دويل الذي ربطته به صداقة حميمة. وجاءت الفرصة الحقيقية لفاوست عام 1906، عندما كلفته الجمعية الملكية بترسيم الحدود بين بوليفيا والبرازيل. وقبِل فاوست على الفور، على الرغم من أن ابنه الثاني براين كان قد وُلِد لتوه، بينما لم يكن عمر ابنه الأكبر جاك يتعدى الأعوام الثلاثة. ولم تُجدِ محاولات زوجته نينا في إبقائه إلى جوار أسرته.
الخطوات الأولى نحو الشهرة
وهكذا، بدأت سلسلة من بعثات المستكشف الجديد كواضع للخرائط، ثم كباحث في الغابة الأمازونية. ولم تكن ثعابين الأناكوندا العملاقة أو أسود الجاجوار إلا أقل المصاعب التي واجهها فاوست وفريقه خطورة؛ لقد كانت الأمراض الناتجة عن الحشرات والبعوض أسوأ بكثير، بالإضافة للأمراض الاستوائية الأخرى. لكن فاوست كانت لديه القدرة على الخروج سالماً من كل المآزق، بما فيها مواجهاته مع القبائل المحلية العدائية. ووُلدت أسطورة فاوست. وفي عام 1912، صدرت واحدة من أشهر روايات كونان دويل، العالم المفقود، المستلهَمة من حوارات المؤلف مع فاوست. وبعد الهند وأفريقيا، وجد فاوست، أخيراً، في الغابة الاستوائية الجنوب أمريكية، عالماً ملائماً لأحلامه كمستكشف. وجعلته قدرته العجيبة على مقاومة الأمراض لا ينتبه إلى أن رفاقه ليست لديهم نفس القدرة؛ فكان لا يطيق أن يعطله أحد، أو أن لا تكون له نفس الرؤية بخصوص كينونة الرحلات الاستكشافية.
وبرغم سمعة فاوست القوية، لم يكن الكثيرون يرحبون بمرافقته في رحلاته. وحدث أن رافقه في إحدى الرحلات الخفيفة، عام 1911، مستكشف شهير للقطب الشمالي، هو جيمس موراي، ذو الستة والأربعين عاماً. ولما لم يكن موراي معتاداً على الأجواء الحارة والرطبة، فقد كان كثيراً ما يمرض؛ وكان ذلك يعني – في عُرف فاوست – تعطيل تقدم البعثة. وفي النهاية، قرر أن يقوم بالتفاف ليترك موراي عند أول موقع مأهول يقابله، ثم يستأنف هو رحلته. وأدى ترك موراي في مكان ليس به إمكانيات كافية للعناية إلى أن يقضي شهوراً قبل أن يشفى ويتمكن من بلوغ لاباز (في بوليفيا) عام 1912، بعد أن اعتقد الناس أنه قد مات. ولم يغفر موراي لفاوست أبداً؛ بل وأراد مقاضاته؛ لكن بعض أعضاء الجمعية الملكية للجغرافيا أثنوه عن عزمه. ولم يكن لفاوست من يرافقه بشكل مستديم سوى عدد قليل من المعاونين، مثل هنري كوستين أو هنري مانلي. وكان سلوكه الجاف نحو زملائه الذين يراهم ضعفاء للغاية، يتناقض مع نظرته إلى الهنود المحليين الذين كان يكن لهم احتراماً عميقاً. وكان يعجب بمعرفتهم بالأدغال، ويتعلم منهم طرق النجاة والحفاظ على حياتهم، والبحث عن الغذاء أو الماء أو النباتات اللازمة للعلاج، بالإضافة إلى اهتمامه بتعلم لغاتهم.
وكان فاوست يصِف بدقة الحيوانات، وتضاريس المكان، والجماعات البشرية؛ الأمر الذي ميَّزه، وأجبر أقرانه على احترامه طوال السنوات التي أمضاها في المنطقة، عبر ست رحلات استكشافية، من 1906 حتى 1913.
"مولد" المدينة زِد
خلال تلك الحقبة، عمل فاوست على تنمية اهتمامين كبيرين لديه: الأول، هو المعرفة الما ورائية، كالاهتمام بالتنجيم، والقدرات الخفية لدى البشر، والأكوان الموازية، والنظريات الخاصة بالحضارات البائدة. أما الاهتمام الآخر، فهو قناعته التامة بوجود مدينة مفقودة في قلب الأمازون، دعاها المدينة "زِد"؛ حيث فكَّر أن تلك المساحة الشاسعة من الأرض يمكن أن تؤوي حضارات مجهولة، وأيضاً – بكل تأكيد – مدناً منسية. كانت تلك النظرية قد وُلدت من الأساطير المتعلقة بـ "الإلدورادو"، أو مدينة "القياصرة".
المخطوطة 512
وقد زاد من قوة تلك النظرية لديه اكتشافه – عام 1914 - لمخطوطة تؤكد وجود مثل تلك المدينة، بالمكتبة الوطنية بريو دي جنيرو، هي "المخطوطة 512"، التي كتبها جواو دا سيلفا جويمارايس عام 1753، وهو واحد من ستة مغامرين برتغاليين كانوا قد رحلوا للبحث عن مناجم الذهب والماس. وهو يروي أن مجموعته – بعد موت نصف عدد الرجال بها، وتوغلهم لمسافة طويلة في أدغال البرازيل – قد اكتشفت بقايا مدينة هامة: "كانت تلك المدينة العظيمة حافلة بالمعابد والقصور الرخامية، ومعبَّدة بالطرق والميادين الكبيرة، وذات عمارة شبيهة بما لدى الحضارات الكبرى الإغريقية والرومانية. لكن الأوراق الأخيرة للمخطوطة كانت منتَزَعة، ولا أحد يعلم مصير تلك المجموعة ولا موقع تلك المدينة العجيبة. وتوقع فاوست أن تكون لتلك المدينة صلة بأطلنطس. وكتب في إحدى يومياته: "إن الرابطة بين أطلنطس وبعض الأجزاء التي تشكل البرازيل اليوم لا يجب الاستهتار بها أو بالإيمان بصحتها، فهي – بتأييد أو بدون تأييد علمي - تمدنا بتفسيرات للعديد من المسائل التي تُعَد – بدون هذه التفسيرات – ألغازاً بدون حل".
وقد اتُهِم الزعيم كايابو أفوكاكا، لفترة من الزمن، بقتل أعضاء بعثة فاوست، حيث تم العثور على بعض الأغراض التي تخص فاوست في قريته. وهو اتهام لا دليل عليه سوى الفكرة الشائعة عن خطورة الهنود.
ومن المحتمل أن تلك النظرية كانت سوف تبقى بلا اهتمام، لولا اكتشاف مدينة ماتشو بيكتشو الشهيرة عام 1911 على يد عالم الآثار الأمريكي حيرام بينجهام، حيث أصبح من المحتمل وجود مدن قديمة منسية للأنكا. وللأسف، فإن قيام الحرب العالمية الأولى، نتيجة لمقتل الأرشيدوق فرنسوا فرديناند، قد أعاقت تنطيم رحلة فاوست الاستكشافية، الذي انضم للجيش المحارب.
السنوات الصعبة التي أعقبت الحرب
أراد فاوست، بعد انتهاء الحرب عام 1918، استئناف مشاريعه الاستكشافية؛ لكن الزمن كان قد تغير، ولم تعد هناك ميزانيات في أوروبا تسمح بإرسال بعثات. ونسي الناس فاوست؛ ومرت عليه سنوات سوداء لم يكن يجد فيها ما يسد به رمق أسرته. وراح يتنقل في بلاد عديدة، مثل جامايكا، بحثاً عن وسائل جديدة للحياة. وكانت زوجته وابنه جاك يدعمانه معنوياً. وظهر في حياة فاوست منافس ثري، يمتلك إمكانيات نادرة – بمقاييس ذلك الزمن – للقيام برحلات استكشافية، هو الدكتور ألكسندر هاميلتون رايس، أستاذ الجغرافيا بجامعة هارفرد، والمؤسس – مستقبلاً – لمعهد هارفرد للاستكشافات الجغرافية (1929). وكان رايس أول من استخدم الطائرات المائية في إعداد الخرائط. وفيما بين 1907 و1925، قاد رايس سبع بعثات لرسم الخرائط لحوض الأمازون.
على الطريق من جديد
وتوصل فاوست عام 1920 إلى تنظيم رحلة استكشافية بمجموعة مكونة من عشرين رجلاً. ورحل إلى البرازيل بحثاً عن مدن مفقودة شهيرة. ولم تحقق تلك البعثة أي نجاح. وبعد عدة سنوات، نجح أخيراً في إقناع المجموعة الصحفية الأمريكية "تجمع أمريكا الشمالية لصحف الأخبار"، عام 1924، بفوائد مشروعه، وبالعوائد الإعلامية الهائلة في حالة النجاح. وكان فاوست متيقناً من أنه سوف يحقق بواسطة وسائله ومعرفته بالأرض، نتائج أفضل من خصمه الأمريكي رايس. وهكذا، اختار ألا يصحبه هذه المرة سوى رفيقين شابين: ابنه الأكبر جاك، وصديق ابنه رالي ريمل.
كان ذلك الاختيار مثيراً للدهشة، لكَونِ المرافقَينِ الشابَّين عديمَيّ الخبرة بالرحلات الاستكشافية. فهل كان يعتقد فعلاً أنهما الأفضل مرافقته؟ أو أنهما الأكثر تكتماً؟ كان جاك رياضياً، منفتحاً على كل خبرة جديدة، ومؤهلاً لمسح وقياس الأراضي، ولاستخدام الأسلحة النارية. أما صديقه الحميم رالي، فكان له نفس الشغف بالرياضة وبالمغامرات، بالإضافة لشغفه بالشهرة.
بعثة 1925
وارتحل الرجال الثلاثة من كويابا برفقة اثنين من السكان المحليين، في نهاية عام 1925، متخذين نفس مسار عام 1920. ومروا بموقع باكايري، وهو معسكر هندي في وسط الغابة؛ ثم وصلوا إلى أبعد نقطة سبق أن بلغها فاوست فيما سبق: "معسكر الجواد النافق"، والتي دعاها بهذا الاسم لأن جواده كان قد نفق بها، واضطر إلى العودة على أعقابه.
وكان الهدف هو عبور نهر شينجو واستئناف الطريق شمالاً نحو أرض الهنود الكايابوس، ثم الانعطاف شرقاً في اتجاه نهر ساو فرنسيسكو والمحيط الأطلنطي.
كان من المفترض أن توجد المدينة زِد في منتصف الطريق، على مسيرة بضعة أسابيع. ومع ذلك، فقد كان المستكشف قد أعلن أن الطريق سوف يستغرق سنتين كاملتين؛ وأنه من غير المتوقع أن يعاود الرجال الثلاثة الظهور قبل عام 1927. لكن ذلك المسار المزعوم لم يكن – حسب رأي المختصين - سوى وسيلة لتضليل من يريد أن يتبعه. وهكذا، فلا أحد يعلم الاتجاه الفعلي الذي سارت فيه المجموعة بعد معسكر الجواد النافق.
وفي المعسكر، أرسل فاوست الرجلين الهنديين برسالة إلى زوجته وإلى الصحافة. وكانت آخر كلمات أنهى بها رسالته هي: "لا مجال للخوف من أي احتمال للفشل..."
وبعد ما يقرب من قرن من الزمن، ما زلنا لا نعرف مصير فاوست ورفيقيه. ومنذ ذلك اليوم، راحت تكهنات عديدة تُطرَح لتفسير ما حدث في قلب غابة ماتو جروسو؛ وأُرسِلت بعثات عديدة للبحث عن فاوست، بالرغم من أنه كان قد كتب قبل رحيله بوقت قصير: "لا أريد أن تأتي مجموعات لنجدتنا، فهذا في منتهى الخطورة. لو لم ننجح نحن، مع كل الخبرة التي أتمتع بها، فالأمل ضعيف في أن ينجح آخرون.
هذا هو السبب في أنني لا أذكر بالضبط وجهتنا. إما أن نبلغ أقصى الطريق ثم نعاود الظهور من جديد؛ أو أن نترك عظامنا تتعفن هناك؛ هذا أمر مؤكد. إن الإجابة عن لغز قاطني أمريكيا الجنوبية القدماء – وربما عن لغز عالم ما قبل التاريخ – يمكن اكتشافها عندما نحدد مواقع تلك المدن القديمة ونعرضها للبحث العلمي. إن تلك المدن موجودة؛ وسوف أثبت أنها موجودة".
وبقيَ السؤال – طويلاً – على ألسنة الجميع:
"ما الذي حدث لفاوست، إذن؟"
المدن "المفقودة" بأمريكا الجنوبية
هل توجد المدينة زِد الشهيرة التي كان يبحث عنها فاوست بالفعل؟ إن الإجابة عن هذا ليست مؤكدة. منذ وصول الفاتحين الغزاة إلى أمريكا الجنوبية، تعددت الأساطير المتعلقة بالمدن المفقودة الحافلة بالكنوز اللا نهائية، مع أسطورة "الإلدورادو" ملء الأذهان. إلدورادو - وهي كلمة إسبانية معناها "الذهبي" – كان يُفترض أنها منطقة ومدينة حافلة بالذهب. وقد نشأت تلك الفكرة عند رؤية بعض الغزاة لزعماء بعض المجموعات من السكان المحليين في كولومبيا مغطاة أجسامهم بالذهب أثناء طقوسهم السنوية، فظنوا أنهم يمتلكون ثروات هائلة. وقد ذهبت بعثات عديدة للبحث عن ذلك "الإلدورادو"، وعادت تروي حكايات خرافية عن أطلال مبهرة، ومدن يعيش بها شعوب بالغة الثراء. وإلى جانب "الإلدورادو"، حرَّكت أساطير أخرى بعثات عديدة للبحث عنها، مثل "مدينة القياصرة"، المرصوفة بسبائك الذهب، والمحتوية على أبواب من الفضة، والمفترض وجودها في الجنوب، في منطقة باتاجونيا.
لكن، نحو نهاية القرن العشرين، ذكر العديد من الباحثين أنه من المستحيل وجود حضارات متقدمة في منطقة الأمازون، لكون أراضيها غير مؤهلة للزراعة؛ وأن الجماعات قليلة العدد فقط هي التي يمكنها الحياة في مثل تلك المناطق. ومع ذلك، ففي عام 2010، اكتشف فريق من الباحثين البرازيليين الفنلنديين، بواسطة التصوير بالأقمار الصناعية، وإزالة الغابات، آثاراً هامة لأشكال هندسية، ومبانِ متطورة، في منطقة تبلغ أكثر من 250 كم طولاً، من المحتمل أنها تنتمي لمجتمع ما قبل الكولومبي؛ مما يُظهِر أن أدغال الأمازون الشاسعة ما زالت تحفل بالأسرار التي تكشفها لنا. وما زال البحث مستمراً!
1925. تُرى، ماذا تُخفي القبة الغامضة التي تظلّل أكثر الغابات اتساعاً في العالم وأعصاها على الاختراق؟ عوالم قديمة منسية؟ "إلدورادو" أسطوري أرضيته من الذهب؟ إنها – بلا شك – مدينة فائقة الجمال، جاء وصفها في مخطوطة عتيقة تعود لعام 1753، يسعى برسي فاوست للعثور عليها.. مهما كلفه الأمر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق