بقلم الصحفي: محب جميل
احتضنت القاهرة أخيراً «أسبوع الكوميكس الأول في مصر» الذي جاء بمبادرة من جمعيات أهلية عدة. بدايات هذا الفن تعود ربما إلى الفراعنة، إلا أنّه اكتسب شرعيته قبل سنوات فقط بفضل محاولات فردية يقف على رأسها حسين بيكار الذي كان أحد الفرسان الذين أسّسوا لحضور قوي له في المشهد البصري
ولأن طبيعة هذا الفن ترتبط بالسخرية من الوضع القائم، فقد سمح المجال العام المصري باختلاف أطيافه الفكرية والأنثروبولوجية أن ترتبط الصورة بالنصّ. لم يعد فن الكوميكس يرتبط بالأطفال، فقط أصبحت هناك مساحة أرحب لفئات عمرية أكبر.
جاءت «ثورة 25 يناير» لتفتح الباب على مصراعيه نحو أنماط جديدة من التعبير باستخدام الصورة المحكيّة.
ربما كانت بدايات هذا الفن في مصر مرتبطة بالتاريخ الفرعوني القديم. اهتم المصري وقتها بتدوين يومياته ومعاملاته السياسية بأسلوب قصصي متسلل يميل إلى الخفة والاعتناء بقيمة اللون. لكن البداية الفعلية لهذا الفن جاءت مع مجلة «روضة المدارس» التي أصدرها وزير المعارف علي مبارك عام 1870، وتولى رئاسة تحريرها رفاعة الطهطاوي، واهتمت تلك المطبوعة بتقديم قصص مصوّرة إلى أطفال المدارس بشكل حيوي وجذاب. غلب على تلك المجلة الطابع الإرشادي، وصدرت لمدة ثماني سنوات ثم توقفت بعد ذلك، ولم تحظ بالقدر الكافي من الاهتمام.
ارتبط اسم «سمير» بالذاكرة الجمعية للطفل المصري، لكن بخلاف مجلة «سمير» التي ظهرت لاحقاً، جاءت مجلة «السمير الصغير» عام 1877، لتحمل أهدافاً تربوية واجتماعية.
نجد حالنا بعد ذلك أمام محطة «المدرسة»، تلك المطبوعة المرموقة التي أصدرها الزعيم مصطفى كامل عام 1893، وجاء في مقدمتها: «لما كانت عموم الجرائد على اختلاف مشاربها لا تفيد الآباء، رأيت أن أهدي أبناء وصغار بلدتي جريدة على الأخص تهذيبية لما في ذلك من النفع والسداد والهداية إلى سبيل الرشاد».
وعلى نهج القصص المصوّرة الذي اتبعته مجلة «المدرسة»، ظهرت مجلة «التلميذ» عام 1893 لتؤكد الدور الإرشادي الذي تؤديه تلك المطبوعات في العملية التعليمية. استمر هذا النوع من القصص المصوّرة لأكثر من 30 عاماً.
دخل المجتمع المصري حقبة جديدة. ظهرت المطبوعات التجارية المصوّرة، فكانت مجلات «الأولاد»، «النونو»، «الأطفال»، و«بابا صادق». لعبت «دار المعارف» المصرية دوراً رائداً في الترسيخ لفن الكوميكس في مصر. كانت المحاكاة الأولى مع مجلة «تان تان» الفرنسية، ثم مجلة «الكتكوت الصغير» لدرية شفيق.
بعد الحرب العالمية الثانية، وجد العالم حاله أمام عتبة جديدة من الأفكار والتوجّهات البعيدة من القولبة والتنميط. الفنان الكبير حسين أمين بيكار (1913- 2002) كان أحد الفرسان الذين أسهموا بدور فعّال في انتشار الكوميكس في مصر. كان بيكار المشرف على مجلة «سندباد» التي صدر عددها الأول يوم 3 كانون الثاني (يناير) 1952، وتولى رئاسة تحريرها الأديب محمد سعيد العريان. لكن المحطة الأهم كانت مجلة «السمير» التي أصدرتها «دار الهلال» عام 1956. قدّمت المجلة نفسها إلى فئة عمرية راوحت من 8 سنوات إلى 88 سنة في شكل أدبي ساخر مليء بالمواقف الجريئة والطفولية.
كان لدار «الفتى العربي» دور محوري في ازدهار فن الكوميكس في مصر. كانت تلك الكتيبة الفنية المكوّنة من محيي الدين اللبّاد وبهجت عثمان وغيرهما من الأدباء والفنانين محاولة حداثية في التنظير لثقافة القصة المصورة والغلاف الملون للطفل. محيي الدين اللبّاد من أهم الفنانين الذين أعطوا للقصة المصورة والغرافيك لوناً مميزاً.
كان مشروع الكشكول لدى محيي الدين اللباد معرضاً من التوثيق البصري والتصميم الابتكاري للأيقونات البسيطة المرتبطة بتاريخنا التراثي الشعبي، اعتمد في أسلوبه على أصالة الرمز العربي وزهوة الألوان التي يمكنها أن تختصر مساحة شاسعة من الكلمات.
كان مشروع الكشكول لديه معرضاً من التوثيق البصري والتصميم الابتكاري للأيقونات البسيطة المرتبطة بتاريخنا التراثي الشعبي. على امتداد هذا الفن، ظهرت مجموعة من الرواد المصريين في الحقب الجديدة أمثال معلوف وفواز .
لكن مجدي الشافعي كانت له الضربة القاضية، فلقِّب بـ «الأب الروحي للرواية المصرية المصوّرة». ألقى حجراً في المياه الراكدة، وخرج بأول غرافيك- نوفل مصرية بعنوان «مترو» (2009) تناولت قصتها مهندس كمبيوتر شاب يشعر بالإحباط من المستقبل، فيقرر سرقة مصرف، ويجد حاله متورطاً وسط مجموعة من الفاسدين واللصوص. تتابع الحكايات على مدار الخط في مغامرة شيقة في شوارع القاهرة المزدحمة. نجح الشافعي في منح صورة بصرية مكثفة حول شوارع القاهرة، وميادينها، وأنفاق المترو.
كانت تشريحاً لمجتمع مفكك ينتظر لحظة ثورية تطيح بركام الفساد الذي عشش في أجزائه. رغم النجاح الذي حققته تلك التجربة، إلا إنها صُودرت ومُنعت من السوق. مع ذلك، تُرجمت الرواية إلى لغات أوروبية. الشافعي كان عرّاب تلك اللحظة. حاول بشكل جدي مرة أخرى أن يخرج بمجلة «الدشمة» بالتعاون مع «مركز هشام مبارك للقانون».
فرض الكوميكس نفسه بقوة على الساحة المصرية، وأحدث فضاءات مغايرة للسائد
كانت كلمة السر «الزحام»، فتولدت المطبوعات المختلفة التي تأخذ من الزحام حصتها اليومية، لتعيد طرح تلك الأفكار بعد التماهي معها. ظهرت بعد ذلك مجلة «توك توك» (2011) على أيدي مجموعة من الشباب الطموح الذي يمتلك من المهارة والموهبة ما يؤهله للخروج بمطبوعة ذات مقاييس عالمية.
فتحت تلك المجلة أبوابها للشباب بهدف النشر المجاني، وقامت على الجهود الفردية، وحظيت باهتمام كبير ودعم من المعاهد الثقافية الأوروبية. المجلة كانت نافذة لمجموعة من الفنانين الذين أصبحوا نجوم شباك على الساحة المصرية أمثال آنديل، مخلوف، توفيق، شناوي، هجرسي وغيرهم. تلك المشاريع المستقلة لها نكتها الخاصة.
ها هو طبيب الأسنان شريف عادل يصدر مجلة الكترونية للقصص المصورة بعنوان «الرجل البرباطوظ»، ويجعل منها حلقات ثابتة لتناول الوضع العام المصري والتفاعل مع مقتضياته اليومية من خلال الرسم.
الدمج بين الصورة والنصّ المكتوب جعل من الدور يولي اهتماماً بتلك المشاريع الفنية، فظهرت الكتب المصوّرة.
من تلك التجارب المميزة كتاب «خارج السيطرة» (2011) الذي نشرته «دار العين» لأكثر من 19 فناناً، وكذلك كتاب «الفن التاسع»، و«أوتوستراد»، و«تأثير الجرادة» للكاتب أحمد خالد توفيق ورسوم حنان الكرارجي.
امتلك فن الكوميكس زمام الأمور، أصبح تأثيره في الشارع واسعاً وخصصت له معارض مستقلة. بدأ بتكوين مجتمعه الخاص الذي يحاكي الواقع بأسلوب ساخر ورشيق يبتعد عن القولبة ويؤكد ليبرالية النقد والانتصار للمنتج الفني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق